هذه جريمة مخلة بشرف المجتمع المدنى، جريمة تطعن قلب وعقل الدولة المدنية فى العمق، جريمة لا يتجرأ عليها إلا الحمقى وأصحاب أنصاف العقول وأنصاف الحلول، جريمة لا ترتكبها أجهزة مؤسسية محترمة، بل عصابة تأتمر لقرارات غامضة وغير مدروسة فى أوقات غادرة وغير محسوبة.
أكثر المعارضين للنقاب على هذا النحو الذى ترتديه بعض الفتيات فى مصر، لا يمكنه أبدا أن يوافق على هذه المذلة وتلك المهانة التى تعرضت لها الطالبات وعائلاتهن فى المدن الجامعية مع بداية العام الدراسى، لا يمكنه أن يرضى على هذا السلوك الغاشم والجارح والطاعن فى السمعة والعقل والدين، بل الطاعن فيما خلقه الله من جمال الوجه والجسم الذى لاحق تلك الفتيات بلا ذنب اقترفنه سواء فى الجامعات المدنية أو داخل مدارس وجامعات الأزهر الشريف.
لا أصدق أن إدارات علمية وتربوية كبيرة أخفت قرار منع المنقبات من دخول الجامعة حتى حانت لحظة الدراسة ثم باغتوا الفتيات بما جرى، لا أريد أن أصدق أن الفكر التربوى المصرى والتراث العريق فى جامعاتنا من الحوار والتفاعل تحول إلى آلية قمعية قاسية بهذا السلوك الاستئصالى والإقصائى المهين.
الآن صارت كل جريمة هذه الحفنة الصغيرة من بنات مصر (الصغيرات) أنهن صدقن طوعا أن النقاب جزء من شريعة الإسلام، وصدقن أن أصل الفضيلة التى يرضى عنها الله تكمن فى إخفاء كل شىء عن الأعين، لم يحاورهن أحد فى الأزهر أو فى غيره من المؤسسات الدينية، ولم تفتح لهن الجامعات أبواب النقاش، ولم يرشدهن أحد إلى أن هذا الرداء لا علاقة له بالدين، ولم يطرح عليهن أحد حجة أخرى فى مقابل ما عرفنه أو ورثنه عن آبائهن من حجج.
غاب الفكر والحوار وعملت المؤسسات التربوية وكأنها حراس بوابة بأوامر بوليسية، والنتيجة أن الدولة تعاملت بكل القسوة مع المنقبات دون أن تدعوهن إلى رؤية واضحة مستندة إلى صحيح الدين، والجامعات تعاملت بكل البطش مع المنقبات دون أن يلتفت أحد للظروف التى أدت إلى لجوئهن إلى هذا الستار الأسود الذى يخفيهن عن أعين الناس والمجتمع.
هؤلاء الطالبات تعرضن للظلم مرتين، الأولى عندما لم يلتفت أحد لكونهن ضحايا قصور فى الدور الأساسى للأزهر الشريف وعلمائه الأفاضل، وأنهن أيضا ضحايا جهل مطبق فى القنوات الدينية الرسمية، وجموح سافر من فقهاء التطرف فى الفضائيات الخاصة، هؤلاء الفتيات صدقن أن النقاب فضيلة واجبة، فيما الأزهر نائم بلا توعية وبلا حركة وبلا نشاط قادر على التأثير فى العقول والضمائر، وصدقن ذلك فيما الإعلام الدينى الرسمى بلا دور وبلا هوية فى الحياة أو السلوك بين الناس.
ظلمن ثانية عندما لم ترسل لهن أى جامعة خطابا تحذيريا قبل بدء الدراسة، ولم تتحرك أى مدينة جامعية للإعلان عن شروط التقدم للسكن، ولم تبادر أى كلية إلى عقد منتدى للحوار أو حلقات نقاش فكرية تدرس فيها دور النقاب فى الجامعة وآثاره الاجتماعية أو الأمنية، لم يحدث شىء من ذلك خلال إجازة الصيف أو مع بداية العام الدراسى الجديد، لكن ما جرى كان انقضاضا على مستقبل هؤلاء الفتيات لتتركهن الجامعات نهبا للشارع بعد أن تركتهن الدولة نهبا للأفكار المتشددة من قبل.
لا يجوز هنا لوزير التعليم العالى الدكتور هانى هلال أن يتعلل بفتوى من الأزهر الشريف أو بكلمات من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى ليبرر هذه القسوة على الطالبات لدى دخول المدينة الجامعية، فالإمام الأكبر نفسه لم يحرك ساكنا من قبل فى هذه القضية الفكرية، ولم يوظف طاقات الأزهر ومصداقيته لمواجهة هذا الزى المنسوب للإسلام.
أنت وأنا نعرف أن الأزهر التزم الصمت طويلا تجاه ما يسمى (بالزى الإسلامى) تماشيا مع أفكار بعض العلماء فى المملكة العربية السعودية إذ كان نخبة من الأزهريين الأفاضل يتقاضون عشرات الآلاف من الدولارات فى جامعات المملكة، ويتسابقون على الانتداب أو التفرغ، ومن ثم ما كان لهم أن يعارضوا فتاوى كبار علماء السعودية التى اعتبرت أحيانا أن النقاب فرض عين على المرأة المسلمة، هؤلاء المشايخ الأزهريون باعوا هذه السلعة لنا هنا فى مصر، باعوها للبنات فى الأزهر الشريف، وباعوها للفتيات الراغبات فى الالتزام الدينى على القنوات الفضائية، وحين حاصرتهم أفكار أكثر إسلامية وأدق فى النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن النقاب لم يكن يوما من الإسلام، تهرب هؤلاء الأزهريون من الإجابة إلى حيلة ماكرة تقول بأنه (فضيلة تضاعف حسنات من ترتديه) حتى لا يصطدموا مع علماء المملكة السعودية من أولياء النعم والأموال الوفيرة فى الجامعات الإسلامية الكبرى فى الجزيرة العربية، ومن ثم تاهت البنات فى تفاصيل صغيرة، وتركن عقولهن لمشايخ أقل علما وأقل اطلاعا وأكثر رغبة فى حصار المرأة وراء ستار أسود إلى الأبد.
أنتم خدعتم هؤلاء الفتيات مرتين، الأزهر فعل ذلك، وأجهزة الدولة وإعلامها ووزاراتها التربوية والعلمية فعلوا ذلك أيضا، عن جهل أحيانا وعن سوء نية فى أحيان أخرى، ثم حين حانت لحظة الحساب وصدرت الأوامر العليا الغامضة فى التوقيتات الغامضة أدار الجميع ظهره لهؤلاء الفتيات وعاقبوهن عقابا مريرا، طردوهن من المدن الجامعية، وطعنوا فى أفكارهن بلا حوار أو تبادل للرأى أو تقدير للمشاعر.
الآن أصبح النقاب ستارا للجريمة، وكأنه لا أحد يتنكر فى زى رجل شرطة أو عامل نظافة أو مندوب دليفرى لينفذ جريمته، النقاب فقط أصبح ستارا للجريمة ينبغى أن تتصدى له المدن الجامعية، والنقاب فقط أصبح وسيلة الهرب والتزوير وتنفيذ عمليات السرقة والقتل!!
انظر هنا إلى هذا الخزى والتزييف، لا أحد يريد أن يعلن حوارا فكريا حول مفهوم الزى فى الإسلام من الأساس، ولا أحد هنا يريد أن يسمح لهؤلاء الطالبات أن يعبرن عن أنفسهن حتى لو كانت أفكارهن خاطئة، القائمون على مهمة تصفية النقاب فى الجامعات ينفذون تعليمات بلا وعى، ولا يدركون آثار هذا السلوك الإقصائى على توليد المزيد من أفكار التطرف فى المجتمع، فلا تظنوا أن هؤلاء الطالبات اللاتى تعرضن لجرح فى الكرامة والسلوك وتعرضت عائلاتهن للمهانة أنهن قادرات على الغفران بسهولة، على العكس من ذلك قد تتفجر فى أعماقهن أفكار راغبة فى المزيد من الرفض والعزلة ضد المجتمع وضد الناس وضد المؤسسات العلمية والتربوية الغاشمة، هؤلاء الطالبات قد يكن فى المستقبل عنوانا على المزيد من التطرف عقابا للمجتمع الذى لم يسمح لهن بالكلام، أو الحوار أو الحصول على حقوق متساوية.
ما جرى هو جريمة ضد المجتمع المدنى الذى لم يعترف بالحرية، وزور فى الوقائع والتفاصيل، وتعامل بروح إقصائية غادرة ضد نخبة من طالبات مصر، وما جرى جريمة ضد الفكر وضد الروح التربوية فى الجامعات، وضد كل ما هو مدنى.
جريمة بطلها الأول والوحيد هو الدولة.
وربما تكون ضحيتها الأولى والوحيدة هى الدولة أيضا.. وفى سنوات قليلة.