جاء هذه المرة من داخل إسرائيل، على يد المؤرخ الإسرائيلى «شلومو ساند»، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب، والذى استطاع عبر كتابه الأشهر «اختراع الشعب اليهودى» أو «متى وكيف اخترع الشعب اليهودى»، أن يؤكد عدم أحقية اليهود الإسرائيليين فى أرض فلسطين، بعدما أثبت من خلال الدراسة التاريخية المتعمقة، كذب الرواية المنسوبة للتوراة، بطرد الرومان لليهود عام 70 ميلادية، والتى عرفت باسم «الشتات اليهودى»، الذى أسس عليه الصهاينة فيما بعد الدعوة العودة إلى أرض الميعاد أو فلسطين.
.......«لا يوجد شىء اسمه الشعب اليهودى»........
هذا ما أكده «ساند» فى مجمل لقاءاته وأحاديثه الصحفية، وبنى عليه كتابه الذى صدرت منه عشرات الطبعات، فهو يرى أن: «الشعب اليهودى آت من الكتاب المقدس، بمعنى أنه شىء خيالى تم اختراعه بأثر رجعى».
وطبقا لتأكيدات «ساند» فإن اليهود لم يطردوا من فلسطين، وظلوا بها واعتنقوا المسيحية والإسلام فيما بعد، مما يعنى أن يهود الأمس هم الفلسطينيون، الذين يعيش أحفادهم على الأرض للآن، الأمر الذى يدحض الادعاء الصهيونى بكون فلسطين هى وطن اليهود الذى هجروا عنه، قبل آلاف السنين، ثم عادوا إليه عام 1948.
يقول ساند: «أنا مثل بقية الإسرائيليين اعتقدت بأن اليهود كانوا شعبا يعيشون فى يهودا، وأن الرومان نفوهم عام 70، ولكن عندما بدأت أنظر إلى الأدلة اكتشفت أن النفى هو أسطورة، حيث لم أجد أى كتاب تاريخى يصف أحداث النفى».
ويضيف الرجل أن السبب فى ذلك هو كون الرومان لم ينفوا أى شعب من فلسطين، وأن معظم اليهود فى فلسطين كانوا فلاحين، وكل الأدلة تشير إلى أنهم مكثوا على أراضيهم.
أما فكرة الشعب اليهودى أو القومية اليهودية التى بنيت على أساسها الصهيونية، وأنشأت دولة إسرائيل، فيصفها كتاب «ساند» بأنها: «أسطورة اخترعت منذ نحو قرن واحد».
إذن من يكون اليهود الموجودون اليوم بإسرائيل؟ وما حقيقة الرابطة الإثنية والبيولوجية التى يعتقدون أنها تجمعهم؟
هذا السؤال طرحه وأجاب عنه «شلومو ساند» فى كتابه قائلا: إنه لا وجود لقومية يهودية أو شعب يهودى واحد، يعود فى أصوله العرقية والبيولوجية إلى جزر منفرد، كما يزعم الفكر الصهيوني، وإنما هناك الدين اليهودى، الذى ينتسب أتباعه إلى قوميات وإثنيات وجغرافيات متعددة، أى أنهم مزيج من الأوروبيين والأفارقة والفرس وغيرها من البلاد التى انتشرت فيها الديانة اليهودية، كغيرها من الديانات، ولا يربطهم إلا الانتساب إلى هذا الدين.
وأضاف «ساند» أن القومية اليهودية مشروع صهيوني، تطورت بذوره فى القرن الـ19، متأثرا بالقومية الألمانية، وتجزر عصر القوميات فى أوروبا، حيث قام الصهاينة باستنساخ التجربة، بخلق واختراع قومية يهودية، أكد الرجل أنها ليست موجودة، سواء من الناحية التاريخية أو العلمية.
ووفقا لساند فقد اعتبر اليهود أنفسهم شعبا لمجرد اشتراكهم فى ديانة واحدة، ثم شرعوا فى خلق تاريخ قومى لهم، باختراع فكرة الشتات والعودة إلى أرض الميعاد.
وقد قامت هذه الفكرة الأخيرة، أو الاختراع الصهيونى على ركنين أساسيين، ينتميان إلى التاريخ التوراتى غير الدقيق، وكلاهما قام المؤرخ الإسرائيلى بتفكيكهما وهدمهما.
الركن الأول هو فكرة الشتات اليهودى، وسبق الحديث عنها، أما الركن الثانى فهو كون الدين اليهودى لم يكن دينا تبشيريا، بل ظل محصورا بالجماعة الإثنية التى حملته واعتنقته فى بداياته، ما يعنى بحسب الادعاء الصهيونى أن الشتات الذى طرد من فلسطين وبقى على قيد الحياة، يعود فى جذوره إلى القبائل اليهودية الأصلية التى هُجرت من فلسطين، وأن اليهودية لم تدخلها أجناس أخرى أثرت على نقاء العرق اليهودى، وهو الأمر الذى نفاه «ساند» بشدة، مؤكدا أن اليهودية لم تختلف عن غيرها من الديانات فى نزوعها نحو التبشير، وإقناع أفراد وقبائل وشعوب أخرى بالدين الجديد، بل وسخر الكاتب بشدة، من بعض التوجهات البحثية فى إسرائيل، والتى تحاول إثبات وحدة الأصل الجينى لكل يهود العالم، بالاعتماد على تحليل الحامض النووى (DNA)!
«لقد ولدت دولة إسرائيل بفعل اغتصاب للمواطنين الأصليين سنة 1948».
هذا ما أراد «شلومو ساند» الذى كان صديقا للشاعر الفلسطينى الكبير «محمود درويش» أن يؤكده، موضحا أن القومية اليهودية المختلقة على أرض فلسطين، لم تكن إلا مشروعا سياسيا استعماريا وأيديولوجيا، وأطروحاته يجب أن ترى من منظار الأيديولوجيا، وليس التاريخ.
هذه هى توصية «ساند» فى كتابه الذى عمل عليه لأكثر من عشر سنوات، وفجر به عددا من الأطروحات المفارقة فى جرأتها، والتى هيجت عليه عشرات الصهاينة وأنصارهم داخل وخارج إسرائيل.
وقد كانت البداية هى جملة التساؤلات العلمية والأكاديمية حول عدد من المسلمات التاريخية المؤسسة ليس فقط للمشروع السياسى للحركة الصيونية، بل والتى وأصبحت بديهيات علمية وموضوعية فى الثقافة السائدة فى إسرائيل وفى الغرب أيضا.
ووفقا لـ» ساند»، فقد كان السؤال الذى يلح عليه دائما هو: «لماذا تحتوى الجامعات الإسرائيلية على أقسام منفصلة لتدريس التاريخ بشكل عام، ثم تاريخ الشرق الأوسط، والتاريخ اليهودى، وكأن هذا الأخير منفصل عن بقية التواريخ ويمتاز باستثنائية متفردة؟».
أيضا لماذا يتم ترحيل التوراة، وهى كتاب دينى مقدس، من رف الدراسات الدينية إلى رف الدراسات التاريخية، لتصبح بقدرة قادر كتابا تاريخيا يدرس فى الكليات والجامعات والمدارس العلمانية؟.
وهكذا تصبح المادة التاريخية التى من المفروض أن تخضع للبحث والتمحيص العلمى مادة مقدسة! ولا مجال لنقدها أو نقاشها، وهى التى يجب أن تدقق عبر مناهج التحليل والخطاب، وتتم تنقية الوقائع التاريخية والحقيقية فيها من الخرافات والأساطير، وهو ما تحول دونه دائما إسرائيل رافعة الكارت الباهت بتهمة معاداة السامية.
ويبدو أن هذا هو ما تسبب فى تأجيل كتاب «اختراع الشعب اليهودى». فـ«شلومو ساند» يعترف بأنه لم يمتلك الجرأة الكافية لمناقشة كل تلك الأفكار فى كتاب علمى ونشرها، إلا بعد أن حصل على لقب «الأستاذية» الكامل «البروفسور»، بما يضمن له نوعا من الحصانة الأكاديمية، ويجعل من الصعوبة محاصرته، ومعاقبته بطرق غير مباشرة، مشيرا إلى أن الخروج عن «الخط الرئيسى» للتفكير السياسى والأيديولوجى المؤسس لإسرائيل يترتب عليه تكلفة كبيرة على «الخوارج»، حتى لو تم ذلك الخروج فى المؤسسات الأكاديمية والبحثية.
نقلا عن جريدة الشروق