عذراًًً مسرى الرسول.. فلم يخذلك الرسميون العرب
استدعى انتباهي
طفح الكيل في غزة.. وكادت تحل المحرمات.. أو هي أُحِلّت.. وبات ليس عاراً أن نترجّل طالبين من الخصم الرأفة والرحمة.. وإيقاف نزيف الدماء.. بعد أن أثخن الصهاينة في أجساد أطفالنا ونسائنا ورجالنا، وبعد أن تساقط، في صمت عالمي مهين، ما يربو على أربعة آلاف شهيد ومصاب، في أكبر مجزرة من نوعها يشهدها التاريخ المعاصر.
عذراً حماس.. عذراً غزّة.. عذراً فتح.. عذراً فلسطين.. عذراً مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم.. عذراً أولى القبلتين، وعذراً ثالث الحرمين.. عذراً شجرة الزيتون.. عذراً للكرامة العربية.. وعذراً لابتسامات الثكالى وابتسامات المكلومين وابتسامات اليتامى التي اختفت بدخان النار التي أحرقت الزوجات وهشّمت أجساد الأزواج والآباء والأمهات والأطفال. و.. صبراً آل غزة.. فإن موعدكم الجنة.
بدأ إحراق غزة ولا يكاد ينتهي في واقعة من أكثر واقعاتنا مع اليهود وضوحاً في الأهداف، وترتيباً في المراحل، واستباقاً للنتائج؛ فلم نعهد في صراعنا مع العدو المحتل مثل هذه الواقعة على مر التاريخ؛ فالعامة يسبقون، اليوم، الخاصة من المحللين والنقاد في فهم وتحليل (سيناريو) الصراع بغاياته وأهدافه، ونتائجه المحسومة سلفاً؛ حتى أصبحت كلمات ساستهم وساستنا أمام كاميرات التلفزيون وكأنها إعادة أو play back لبجاحة الخطط وعظيم الابتلاء؛ فصبرا آل غزة.. إن موعدكم الجنة.
والتساؤل الأعظم اليوم: هل عجزت الحكومات العربية والإسلامية عن حماية مليون ونصف المليون مسلم يحترقون في غزّة؟ هل تخاذل الرسميون العرب عن نصرة إخوانهم وأبنائهم وبناتهم في فلسطين؟ لماذا هذا الصمت المطبق في الدوائر السياسية والعسكرية العربية والإسلامية؟.. أسئلة كبرى، طرحتها شعوب الأرض كافة وسط صراخ الثائرين والثائرات على اتساع قارات العالم الخمس؛ فماذا جرى؟ ولماذا يصمت الرسميون العرب؟ وعندما يتحدثون، لماذا لا يسمع لهم أحد؟ وأخيراً.. هل يلام الموقف العربي الرسمي على هذا الصمت المحزن؟ أظن أن الأمر في غاية التعقيد والحساسية، وأكاد أجزم أو أنني أكاد أقسم أن كل ملك أو رئيس دولة أو أمير بلد عربي كان يخلو بنفسه في داره ويغلق باب جناحه الملكي أو الرئاسي أو الأميري ليبكي ويذرف الدموع على غزة، ويتنهد بحرقة، ويكاد يقضي عليه الأسى.. ولكن العين الرسمية بصيرة، واليد الرسمية قصيرة يا قرّة العين.. غزّة.
فمنذ السنوات الأولى لبدء الصراع العربي - الإسرائيلي كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يردد مقولته الشهيرة بعد كل خطبة رسمية يعرض فيها للوضع الفلسطيني ويجدد دعمه وسياسة بلده المناوئة للعدوان: كان الله في عونك يا فلسطين. وتلك كانت قراءة حصيفة من قيادي عربي حصيف أدرك مبكراً أن الأمر في غاية التعقيد، ومضت سياسات المؤسسات الرسمية العربية منذ ذلك التاريخ على هذا المنهج، لتتبلور في مواجهة عسكرية في حربي (67) و(73). وهي المواجهة التي استنزفت فيها جُلّ القدرات العربية، من المحيط إلى الخليج.. وتمر السنون.. ليخسر العرب مع فلسطين الجولان وسيناء، وتُضرب صبرا وشاتيلا.. وتدخل إسرائيل لبنان.. وتهدر الكرامة العربية الرسمية.. وتتبلور من جديد.. مقولة الملك السعودي الراحل، أن كان الله في عونك يا فلسطين. وتتغيّر قسراً.. يا غزّة.. سياسات العرب من المواجهة إلى الدعم والمساندة، وتفتح الحكومات العربية من المحيط إلى الخليج أذرعها للاجئي فلسطين، وتبني المخيمات ويندمج المهاجرون مع المواطنين في أكثر من دولة عربية؛ حتى أنهم غيروا تركيبة سكان البلاد في بلاد مثل سوريا، والأردن، ومصر. وتستقبل دول المغرب العربي قادة فلسطين. وينزل الخليج بثقله السياسي والدبلوماسي لنصرة قضيتنا التاريخية، ويفتح خزائنه وخزائن شعبه لبرامج الإغاثة ببرامج تبرعات رسمية وشعبية لم يسبقها مثيل.. وتنشئ دول المغرب العربي والمشرق العربي لجان الإغاثة بشتى أنواعها.. ويدلف العالم من جديد مرحلة جديدة من المكر الغربي الإسرائيلي المتمثل في مفاوضات الأرض مقابل السلام.. وتبدو مرحلة المفاوضات أثقل وأعتى على فلسطين وعلى الرسميين العرب من الحروب الجوية والبرية، وتذهبين يا فلسطين!! إلى أوسلو.. لتعودي بخفي حنين. ويدلف القرن الحادي والعشرون لينجح العدو المحتل في دق إسفين الفرقة بين فصائلك يا فلسطين.. فيحزن الرسميون العرب لهول المرحلة المقبلة، ويستشرفوا مصيراً أسود قادماً.. أكثر ظلمة من أيلول.. فيستنهضوا الهمم، ويتنادوا: أن دونك إيانا يا فلسطين؛ فالدنيا كلها تعلم أن لا قبل لنا اليوم بإرادات الكبار، وليس منا اليوم من يُبحر خلاف التيار.. فنحن كلنا ندرك يا فلسطين قول الحق تبارك وتعالى (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) هي.. إذاً.. سنّة إلهية كونية.. فات فيها اليوم الذي لنا.. ونعيش الآن اليوم الذي علينا.. ويتوهم كثيراً مَن قال بغير ذلك.
وفي أقدس بقعة على وجه الأرض وعلى مر التاريخ تأتين يا فلسطين، وتعودين بالعهود والمواثيق، أن لا تتركي مجالاً للعدو لنفث الفرقة بين فصائلك من جديد.. فحينها ستواجهين المصير المحتوم.. لكنك يا فلسطين.. تنوئين بحمل أمانة الوفاق، وتضعين الرسميين العرب من جديد في مأزق دولي جديد.. وتقودين التاريخ إلى واد سحيق.. واد لن تَجِدي أحداً منا فيه معك أبداً.. ليس لأننا لا نريد.. ولكن وعزة الله يا غزة.. لأننا لا نستطيع.. لا نستطيع.. وكفى.. وتعلمين أنت يا فلسطين.. وتعلم الدنيا كلها.. سر عجزنا.. ومهما اتفقنا أو اختلفنا حول عناصر وأسباب عجزنا يا قرّة العين.. فالخلاصة واحدة: ستبقين وحدك، ونحن نرقبك من مكان بعيد.. فالذين خذلوكِ يا فلسطين.. هم من خذلوا معك مواقفنا الرسمية العربية والإسلامية في زمن كان العالم كله يقيم لمواقفنا الرسمية شيئاً من الموازين، ويترقب تدبّرنا لأمركِ ولأمورنا معك.
آه يا غزّة، والله.. والله.. والله لا نمنّ عليك.. لكن في ما يحدث دروس عظيمة.. فأحداث أفغانستان، والعراق، وفلسطين، خاصة، دروس وعِبر، علينا أن نخرج منها بالعظة والمعرفة والدراية.. وأن نضع الأمور مواضعها.. وأن نكون مع الرسميين العرب والمسلمين، في الوقت المناسب، أما (إذا فات الفوت.. فوالله لا ينفع أحداً حينها رفع الصوت).. اللهم إني أسألك أن تحقن دماءنا في فلسطين، وأن تجعل لإخواننا، من حيث لا يحتسبون، مخرجاً.. اللهم انصرهم وانتقم ممن أزهق أرواحهم وأفسد أرضهم يا عزيز يا مقتدر.. وكان الله في عونك يا فلسطين.
الاستاذ