كنت أحلم بالهجرة ... أن أركب سفينة أو طائرة أو قطارا أو مصيبة , وأغادر بعيدا , حيث أرض الله الواسعة .
ليس بالضرورة أوروبا أو أمريكا . مجرد أن أخرج من هذه البلاد يكفي .
سوف أتخلص من جواز سفري .. ولغتي العربية .. وهويتي القومية . وأدفن ذاكرتي تحت أقبية النسيان .
سوف أتعرى من كل الأشياء . من حاكم نشأت وترعرت وأوشكت أن أنتعل قبري دون أن أعرف سواه .. ومن وطن يغرق في الرشوة والفساد والواسطة والمحسوبية . ومن سجن أمعن في العتمة والرطوبة والعفونة .. ومن شارع يحرسه نفس الشرطي منذ تفتحت عيوني على أشلاء الوطن .. ومن إمام يرى نفسه خليفة الله في الأرض ويرى الآخرين أرتالا من الديدان , وأكداسا من الزنادقة .
سوف أخلع آخر قيود النفاق . وأتنفس أبجدية أخرى أول مفرداتها كلمة حرية .. وآخر مفرداتها إثما لم يرتكب بعد ..
كنت سأهاجر , لولا أني غيرت وجه الحلم , وقناع الزيف , وارتضيت لنفسي أن أكون أي شيء , أي شيء ضمن أسوار الوطن . ولمعت في رأسي فكرة . فكرة عبقرية . لماذا لا أحلم أن أكون وزيرا ؟
أليس من حقي أن أرتكب حلما ..؟ ثم أليس من حقي أن أحلم بالوزارة ؟ طالما أن جميع عقلاء الوطن . وأغبياء الوطن , وسفهاء الوطن يحلمون بالوزارة .. وطالما أن الوزارة تتغير كل سنة أو كل شهر أو كل أسبوع .. مما يتيح للجميع أن ينتظر دوره في الوزارة ؟
ابتسمت بيني وبين نفسي , وأخذت أقلب الأمور وأغازل طيف الأمل .. بل بدأت أبحث عن الوجه المشرق في بلدي .
الوزارة !!! ياااه . سوف أودع الفقر , وأدفن آخر ذكريات البؤس , وسيكون الوطن نسيما عبقا من الحرية .
قد تكون الفترة قصيرة , فالوزارات تتغير سريعا , لكني سأكون من الحصافة والذكاء , بحيث أصبح خارج أسوار الفقر ..
الوزارة أفضل مهنة في هذا البلد . وليس من أحد لا يحلم بها .. فقط عليّ أن أنتظر . حتى لو فشلت في أن أكون وزيرا , يمكن أن أتواضع وأسعى لأكون عضوا في البرلمان ..
ما يهمني في كل الأحوال خدمة الوطن . وأن يكون للوطن مذاق آخر تحت رايتي الميمونة ..
انتظرت طويلا .. حتى سقطت أحلامي , فالحكومات أصبحت لا تتغير نكاية في طموحي المتواضع ... ووجوه النواب أصبحت لا تتغير بعد أن نالوا ثقة لا يمكن نقضها .. وأنا كما أنا .. يضيع الحلم مني كما يضيع الماء من أكمام السراب ..
عدت إلى حلمي القديم .. فليس أفضل من أن أهاجر .. فهذا الوطن يربكني .
كأنه يتخلى عن عراقته وأصالته . ومن يدريني أن اصحو ذات يوم وقد نضا آخر عباءات الواسطة . وعمامات المحسوبية . وعطور الفساد , وأقبية التعفن ..
تعودنا أن نحلم , وتعودنا أن نبحث عن العباءات والعمامات , ونستظل الفساد والتعفن . وبعد أن تعودنا .. يضيع الحلم .. ويبقى في هاجسي حلم قديم : أن أهاجر .
منقول