وكأنه يصحو على نهار مريع، اكتشف أنه يحيا في دنيا بلا قلب، واكتشف أن كل ما يحيط بـه من ترف وراحة ليس إلا مشروعا لنجاة لحظية وغرق آت. غرق الروح في بحيرة من الموات الأنيق والملون والبراق. وأنه لو ترك نفسه لاندياح هذه الموجات الفاترة في تلك البحيرة فإنه سرعان ما يتحول إلى كتلة لحم خاوية، تجد أقصى لذتها في اللحظات العابرة على الموائد أو ما يشبه الموائد. حتى تلك اللحظات التي تبدو جمالية، ويطالعها عبر جهاز الفيديو الذي لا يكف عن الوميض والطنين، ما هي إلا عنصر مكمل للحظات الموائد أو ما يشبه الموائد. فهي بكل ما يحيط بها من ملابسات، تتحول من دائرة معالجة الجـمال إلى إطار تأكيد الغرق.
قالت روحه: "إني أغرق"، وكانت تتعلق بـأذيال أغنية قديمة، وفوجىء بانبثاق أغنية قديمة أخرى في ذاكرته: "المودة هي ما نحتاجه - الآن - يا صديق". وكاد يهتف مع أصداء تلك الأغنية الأوربية التي تحولت إلى شجو عربي خالص في روحه. لكنه مكث يتساءل: وأين المودة في ذلك التيه من الرمل الملون والبريق؟! وانطوى نهاره على ترجيع لا ينتهي لصرخة السؤال.
في أول الليل، في ذلك البرزخ المشحون بالوجد - بين اليقظة والنوم - تذكر مقولة لا يدري إن كان أنشأها أم أنشأها غيره ليرددها هو باقتناع: "ما تحمله الذاكرة حي، أكثر مما يجري في الحياة ذاتها، لأنه مقيم وليس بعـابر". وراح يلوذ بحنايا الذاكرة. تذكر كثيرين من أهله، وأصحابه. تـذكر الحاضرين هناك والغائبين. وكانوا يهلون عليه من عمق الظلال فيرتعش قلبه لحنان طلعتهم. لقد كان محبا وكان محبوبا من كل هؤلاء. وغمره فرح صاف، فـأخذ يستعيد الذاكرة، ويمعن في تلمس التفاصيل.
غفا بارتياح لم يعرفه من قبل، وفي النهار صحا مبتهجا في غمرة النور، ما أطيب النور - قال مرتاحا - ثم قال: إنه في الليل سيواصل التذكر. سيواصل النداء. لكن - وانتابته برهة من حيرة - هل يقف النداء عند حدود النداء؟ ألن يفضي النداء إلى طلب التلاقي؟