--------------------------------------------------------------------------------
جتمعت عليكِ يا غزة الحبيبة الشدائد العظام والأهوال الجسام، وأحاطت بكِ الخطوب والمؤامرات إحاطة السوار بالمعصم، وقفتِ وحدكِ يا غزة الإباء أمام شدائد تِسْع:
- كافر يقاتِلُك
- وجار يحاصرك
- ومنافق يبغضك
- ومسلم يخذلك
- وعدو يتجهمك
- وصديق يُسْلِمُك
- وقريب يظلمُك
- وعالم يَخْفِرُك
- وجاهل يَحْقِرُك
نعم، يا غزة الجريحة، وقفت وحدكِ تشتكين إلى الله ضعف قوتك، وقلة حيلتك وهوانك على الناس، وقد سفك اليهود الدماء، ومزّقوا الأشلاء، وروعوا الأبرياء.
لقد سطَّرتِ يا غزة صحائف من ضياء، ولكنك يا غزة، بالرغم من الماسي المروِّعة، والكوارث المفجِعة، والجراح النازفة فقد سطرتِ صحائف من ضياء أغاظت المنافقين، وأتعبت المتآمرين، وأربكت المخذِّلين.
- مَن كان يظن يا غزة أن تستمري على هذا الصمود والتحدي حتى اليوم؟
- مَن كان يظن يا غزة أن تَظَلَّ لغة الإباء والعزة هي سَمْتُكِ حتى اليوم؟
- مَن كان يظن يا غزة أن تُحْدثي بأعداء الله هذا النكال الذي لم يتوقعه أحد؟
- مَن كان يظن يا غزة أن طائرات الأعداء بأنواعها ومركباتهم بأصنافها وزوارقهم بتشكيلاتها لا تُسْكِت صواريخك المزلزلة حتى اليوم؟
- مَن كان يظن يا غزة أن الموت البطيء الذي تتعرضين له بفعل الحصار، والموت السريع بفعل النار لا يجعلك تستسلمي حتى اليوم؟
- مَن كان يظن يا غزة أن...... مَن كان يظن يا غزة أن........ مواقف كثيرة وبطولات نادرة سيُسَجِّلها التاريخ في أنصع صفحاته.
إن المتآمرين عليك يا غزة- وما أكثرهم وأحقرهم في ذات الوقت- أعطوا الضوء الأخضر لعدو الله والمؤمنين بتوجيه ضربتهم لكِ لعلهم يستريحون منكِ في عشية أو ضُحاها، في ساعة من ليل أو نهار، ولكن خاب قصدهم وارتدوا على أعقابهم، ففاجأتِ الجميعَ يا غزة بصمودك وثباتك فوقفوا ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ (المنافقون: من الآية 4)، ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ﴾ (الأحزاب: من الآية 19). ألا ما أقبحهم وأقبح فعالهم! ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: من الآية 4).
وعندما أقول أعطوا الضوء الأخضر للعدو فأنا أقصد ذلك: ألم يصرح قادة العدو بذلك في بداية الحرب؟
ألم تكتب صُحُفهم هذا؟ ألم يذهب المجرم بيريز لجنوده في غزة ويقول لهم إن بعض العرب يصلون من أجل أن تنتصروا في غزة؟ ألم يتصل بوش بزعيم أكبر بلد عربي ويشكره على موقفه من حصار غزة؟ ألم....؟ ألم.....؟ ألم......؟ ألم....؟ من أمور كثيرة أصبحت لا تخفَى على طفل صغير يمسك بالحلوى في يمينه والكرة في يسراه.
كفاكِ فخرًا يا غزة
- كفاكِ فخرًا يا غزة ما حققتِيه من بطولات وأمجاد، وإباء وشموخ حتى اليوم أيًّا كانت نتيجة الحرب والقتال.
- كفاكِ فخرًا يا غزة أنكِ أحييت الأمل في نفوس اليائسين، وأن هذه الأمة قادرة على النصر على عدوها وتحقيق منهج الله في الأرض متى وجد الرجال أمثالكم.
- كفاكِ فخرًا يا غزة أنكِ وجَّهتِ الأمة من أقصاها إلى أقصاها كيف تكون الرجولة، وكيف تُبنى الكرامة.
- كفاكِ فخرًا يا غزة أنكِ علمت الأمة أن من اعتصم بحبل الله هداه، ومن توكل على الله كفاه، وأن من اعتزَّ بإيمانه علا، وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد قال ربنا سبحانه: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران)، وقال ﴿َلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾ (محمد).
- كفاكِ فخرًا يا غزة أنكِ أيقظتِ النائمين، ونبَّهتِ الغافلين، وأرشدتِ التائهين فعرفوا العدو من الصديق، والصادق من الكاذب والأمين من الخائن، ودعاة الإصلاح من دعاة الإفساد، ومن يحمل روحه على كفه فداءً لعِزِّ أمته وكرامتها ومن يبيعها بثمن بخس.
- كفاكِ فخرًا يا غزة أن أطفالكِ قبل رجالكِ انطلقوا يصرخون فينا:
يا بني الإسلام، إنا قد فتحنا *** بالبطولات لكم بابَ الإباءِ
وانتفضنا حين أبديتم خضوعًا *** وتدثَّرْتُم بثوب الجبُناءِ
أنا لا أدعو إلى إشعال حربٍ *** إنما أدعو إلى دَفْع البَلاءِ
لا تقولوا: أنتَ طفلٌ، رُبَّ طفلٍ *** صار بالإيمانِ رَمْزَ الأقوياءِ
- كفاكِ فخرًا يا غزة أنك في محرقة الأخدود الثانية في صبركم وثباتكم وحبكم للشهادة، صرتم قدوة عظيمة للأمة وأحييتم قِيَمًا طالما سعى الأعداء لإخمادها. فحتى لو أصبح مصير أهل غزة كمصير أهل الأخدود فيكفيهم نصرًا أن أحيوا أمتهم بدمائهم، وهذا هو الخطر العظيم على الأعداء والذي ما يدفعهم لسرعة إيقاف المعارك دوليًّا لا رحمة بأهل غزة.
ما أعظمه من فوز، وما أكرمه من نصر
نعم، لقد فُزتِ يا غزة فوزين: فوز في الدنيا وفوز في الآخرة. فأما فوز الدنيا فهو بثباتك على الحق واعتزازك بالمبدأ، وهذا فوز عظيم ونصر مبين. لأن الثبات على المبدأ نصر ولو أدى إلى فناء صاحبه: هل يستطيع أحد أن يقول أن الغلام الذي أرشد الملك لكيفية قتله أمام الناس ليدخلوا بعد ذلك في دين الغلام فتنتصر مبادئه على حساب حياته لم ينتصر؟! هل يستطيع أحد أن ينكر أن ثبات الدعاة على دعوتهم بالرغم من قسوة المحن التي تعرضوا لها وما زالوا على مر الأزمان لا يعد نصرًا؟! فالمهم أن تنتصر الفكرة وإن غاب الداعي إليها، فسيأتي بعده ألوف يحملون الفكرة، ويؤدون الرسالة، وهذه طبيعة الدعوات:
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى ** أبدًا وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي ** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة ** أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ** ربي وربي حافظي ومعيني
سأظل معتصمًا بحبل عقيدتي ** وأموت مبتسمًا ليحيا ديني
وأما فوز الآخرة- إن شاء الله- فهو باستشهادكم، وما أعظمه من فوز، هل هناك أفضل من أن يلقى المرء ربه شهيدًا؟ فبالرغم من أنه موت إنه يسمى فوزاً. من مات فاز؟!! نعم من مات فاز فوزًا عظيمًا. ألم يقل المولى سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة). وفَهِم الصحابة ذلك ومن ثم نجد حرام بن ملحان، خال أنس، حينما طُعِن من خلفه برمح، وكان من القراء السبعين الذين بعثهم الرسول ليعلموا بَنِي عَامِر، يقول: اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!
- وهذان الفوزان أشار إليهما القراّن الكريم في قول الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف).
فيا أيها المرجفون: غزة لن تلبس الأكفان، فإن كنتم جهزتم الأكفان لغزة سلفًا، فأرى هذه الأكفان تناديكم فأنتم أولى بها، لأن باطن الأرض خير لكم من ظاهرها. غزة لن تلبس الأكفان لأنها حيَّة وأنتم الأموات، هي الأعزُّ وأنتم الأذل، أهلوها هم الرجال وأنتم الأقزام، هم القمم وأنتم اللمم، فأقسَمَتْ غزة بربها أنها لن تركع إلا لخالقها وباريها.