" أنا محبط " نسمع هذه الكلمة كثيرا وليتها تخرج من فم رجل عجوز أو شيخ طاعن فى السن ربما خفف هذا من وطأة الأمر لكنها تنطلق من أفواه الشباب فعندما تجلس فى أى تجمع شبابى تجد السواد الأعظم منهم يضع يده على خده يفكر فى صمت وإذا تحدث فإنه يشكو صعوبة الحياة وكرهه للمجتمع والحكومة ونفسه ويصور لك إحباطه وفقدانه الأمل فى غد مشرق ويختم حديثه دائما بالكلمة المأثورة " اتخنقت "
ونحن هنا بصدد مشكلة استشرت فى جسد المجتمع المصرى كما يستشرى السرطان فى البدن وتوغل الإحباط فى نفوس السواد الأعظم من الشباب حتى صار القاعدة فالشاب الذى لم يتعد العشرين ربيعا فقد الأمل فى مستقبله والرجل فى الثلاثين والأربعين من عمره يشكو بؤسه ويأسه من غلاء المعيشة وقلة الدخل وكذلك الشيخ العجوز الذى لايجد ثمن دوائه .. حتى الطفل الصغير سأم الحياة بعد أن أصابه الضجر من الحقيبة الثقيلة التى تقسم ظهره كل يوم خاصة وأنه ملّ المناهج العقيمة التى لوثت عقله وأثقلت كاهله وفكره .
فالإحباط له تبعات خطيرة لأنه يفتح أبواب الأمراض النفسية على مصراعيها فيتمزق كيان الإنسان وتصير روحه مرتعا لأمراض مستعصية كالتشاؤم واليأس والاكتئاب وفقدان الانتماء ولنا أن نضع تحت الأخيرة ألف خط لأن الفرد يفقد انتماءه لأهله وشارعه ومحيطه حتى يفقد انتماءه لوطنه فتكون العواقب وخيمة والمأساة عظيمة .
وقد حاولنا فى هذا التحقيق الوقوف على أسباب الإحباط وجوانبه وانتشرنا بين الشباب نستطلع آراءهم لعلنا نضع أيدينا على الأسباب الحقيقية لهذه المشكلة المستعصية .
شباب الخريجين على فين رايحين
وفى بداية التحقيق التقينا محمد سعد " أحد الخريجين " والذى أشار إلى أن الدولة هى التى تتحمل العبء الأكبر من هذه المشكلة لأنها قتلت الأمل فى نفوس الشباب وخاصة الخريجين الذين تخرجوا من الجامعات شبابا يافعا كى يصبحوا روادا دائمين للمقاهى التى استحوذت على معظم أوقاتهم مما أدى إلى إقبالهم على المخدرات ظنا منهم أنها الحل الأمثل للفرار من واقعهم المؤلم ثم أضاف قائلا : حتى لو التحق الشاب بوظيفة بعد
" عمرين طوال " كم سيتقاضى ؟ ومن أين لهم أن يتزوجوا ؟ هل من هذه المرتبات الهزيلة ؟!
أما خالد على " شاب تخرج منذ عدة سنوات " قال : نسمع تبريرات الحكومة كثيرا أن عدد الخريجين يفوق عدد الوظائف وأن الزيادة السكانية تلتهم الفرص أولا بأول وإذا سلمنا جدلا بهذا الأمر فهل من المعقول أن يمكث رجل شرطة على سبيل المثال 35 عاما تدرج خلالها فى المناصب المختلفة حتى اكتسب لقب " لواء متقاعد " وفجأة ودون سابق إنذار يأتى وزير فى حكومة الشعب المعدم ليقوم بتعيينه مستشارا له فى الوزارة براتب يتعدى 250 ألف جنيه شهريا ؟ فلو حسبناها بحسبة بسيطة لوجدنا أن راتب هذا الرجل يكفى لتعيين ألف خريج براتب 250 جنيها شهريا فلمصلحة من هذا العبث ؟
وألمح الحاج محمود إلى نقطة مهمة حيث قال : عندما طالعنا تقرير التنافسية الذى صدر هذا العام صُدمنا بتواجد مصر فى المرتبة الأخيرة على مستوى العالم فى توفير فرص العمل للشباب فبالله عليكم كيف يولد الطموح والتنافس والتصميم فى نفوس شبابنا ؟!
* محمد الفيومى " طالب جامعى بآداب المنصورة " تحدث إلينا قائلا : أنا فى غاية الإحباط لأنى قضيت أكثر من 15 عاما بين المدارس والجامعات والآن أحمل لقب خريج ومع هذا أعمل فى أحد مصانع الآثاثفمن أين يأتى الطموح وأنا مجبر على عمل لا أجيده وبعيدا كل البعد عن مجال تخصصى ؟!
* وأردف أحمد عمر قائلا : الدولة هى السبب فيما نعانيه من إحباط فأنا على سبيل المثال لدى أربعة أبناء ودخلى مرتفع لأنى أملك ورشة لصناعة الموبيليا ومع ذلك لايكفينى هذا الدخل بسبب ارتفاع الأسعار الذى لم يعد له سقف محدد فالتجار يغالون فى رفع الأسعار والحكومة شجعتهم على ذلك بغياب الرقابة وعدم المحاسبة
* " الخوف " من الوسائل المعينة على الإحباط
وأشار عمرو سلامة " طالب جامعى " إلى أن الخوف من عوامل الإحباط .. الخوف من المستقبل .. الخوف من ضياع العمر سدى .. خوف الشعب من الحكومة وعدم قدرته على إبداء رأيه وعجزه أمام تغيير القيادات التى تسيئ إلى البلاد وتقودها نحو الهاوية بخطى واسعة وعدم القدرة على الاعتراض خوفا من بطش الحكومة كل هذا أدى إلى تفشى الإحباط فى نفوس الشعب .
* سمير على " صاحب معرض للموبيليا " عندما سألناه عن الأجور التى يعطيها للعمال قال : الأجور مرتفعة ولكن الإحباط يسيطر على نفوس العمال فالأسعار ترتفع بجنون ولا يوجد مقابل محسوس فالبنية التحتية منهارة والناتج الزراعى مسرطن والمياه مخلوطى بالمجارى ولا حياة لمن تنادى .
انعدام الوازع الدينى وعدم القناعة من وسائل الإحباط
* وعلق رامى سعيد قائلا : إذا كانت الدولة تتحمل مسئولية كبيرة فى تفشى الإحباط فإن للفرد دور كبير فى إصابة نفسه بهذا الإحباط فالبعد عن الله وضعف الوازع الدينى وعدم الرضا بالقليل وانعدام القناعة والحث عن الثراء السريع ومحاولة الصعود بقفزة واحدة وغياب مفردات ومعانى الكفاح والتوقف عن تطوير النفس والارتقاء بها فكل هذا يسأل عنه الفرد لا الدولة .
وأشار الشيخ رفعت " إمام أحد المساجد " الذى تحدث عن الإحباط قائلا : ربما يردد الكثير أن الدولة هى السبب وأنا لاأنكر هذا ولكنى أؤكد أننى عاصرت أجيالا سابقة وكانت ظروفها أشد قسوة وكنا نعيش عيشة ضنكا مليئة بالفقر والجوع والحروب المتتالية ولكن لم نسمع أبدا عن كلمة الإحباط لأن الرضا كان متواجدا بقوة فى تلك الأيام رغم الكوارث والظروف