"مصر هبة النيل".. قال هذه الجملة المؤرخ الأغريقي "هيرودوت" ليدلل على قيمة مصر و أهمية نهر النيل..هذا النهر الذي كان قاسما أساسيا فى كل الحضارات التي قامت على أرض مصر خصوصا انه يعد من أطول الأنهار في العالم بطوله البالغ 6650 كيلو متر و تعتمد عليه فى الزراعة و النقل و سد احتياجاتها من مياه الشرب عشر دول افريقية هي أوغندا - أثيوبيا - إريتريا - السودان - الكونغو - بوروندي - تنزانيا - رواندا - كينيا - مصر.
تنظم عدد من الاتفاقيات المائية و تحدد نصيب كل دولة من هذه الدول من مياه النيل من هذه الاتفاقيات اتفاقية عام 1929 بين مصر و بريطانيا التي كانت تنوب عن السودان و أوغندا و تنزانيا بحكم احتلالها لهذه الدول حينها.. أيضا هناك اتفاقية أخرى مكملة للاتفاقية السابقة و هي اتفاقية عام 1959 بين مصر و السودان التي حددت كميات المياه المستحقة سنويا لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر و18.5 مليارا للسودان.هذا بجانب عدد من الاتفاقيات التي شددت على حقوق مصر و السودان التاريخية فى مياه النيل مثل اتفاقية روما 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا واتفاقية أديس أبابا 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا واتفاقية لندن 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
ولكن بعد عدة عقود من توقيع هذه الاتفاقيات بدأت جميع دول حوض النيل غير العربية و على رأسها أثيوبيا في التحرك و الدعوة لاستحداث اتفاقية جديدة تقسم مياه النيل تقسيما "عادلا" بين دول حوض النيل بدلا من الاتفاقيات السابقة التي تعد اتفاقيات ظالمة تم توقيعها بيد الاستعمار كما ترى بعض دول حوض النيل.. دولا مثل أثيوبيا و أوغندا و كينيا ترى أن مصر و السودان يحصلان على حصة ضخمة من مياه النيل في حين أن دول المنبع تحصل على حصة أقل بكثير...كما أن دول مثل تنزانيا و رواندا وبوروندي كانت قد وقعت اتفاقية منفردة بخصوص النيل و هي اتفاقية نهر كاجيرا عام 1977
القراءة المتأنية لهذا المشهد تثير تساؤلا كبيرا و هاما....لماذا الآن تتحرك هذه الدول من أجل تعديل اتفاقيات تم توقيعها منذ عشرات السنين؟..الدور الإسرائيلي في هذا الموضوع يبرز بامتياز بالتأكيد.
فلا يخفى على أحد تطلع إسرائيل منذ الستينيات إلى الحصول على مياه نهر النيل و نهر الأردن نظرا للنقص في الموارد المائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة...فقامت بحفر الآبار الجوفية بالقرب من الحدود المصرية،و بدأت في سحب المياه الجوفية من الأراضي المصرية مستخدمة آبار ارتوازية حديثة و مستغلة انحدار الطبقة التي يوجد فيها المخزون المائي في سيناء صوب اتجاه صحراء النقب، و ذلك حسب تقرير أعدته لجنة الشؤون العربية بمجلس الشعب المصري في يوليو 1991 .
و في عام 1974 م طرح احد المهندسين الإسرائيليين مشروعا يقضي بنقل مياه النيل إلى إسرائيل تحت عنوان "مياه السلام" والذي يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، و نقل هذه المياه عن طريق خطوط أنبوبية من أسفل قناة السويس....و أعيد طرح هذا المشروع عام 1979 ولكن من طرحه هذه المرة هو الرئيس المصرى الراحل أنور السادات الذي كان يرغب في تقديم مياه النيل كعربون سلام على حد تعبيره كي يستطيع "المسلمون في القدس التوضؤ من مياه النيل"..وحينها أثار هذا الطرح اعتراضات شعبية و اعتراضات رسمية من جانب أثيوبيا.
إذن من الواضح ان إسرائيل وراء هذا التحرك من جانب دول منبع النيل.. خصوصا انه مؤخرا قام وزير الخارجية الإسرائيلي افيجدور ليبرمان بزيارة لدول منابع النيل .. و تعتبر أثيوبيا هي رأس الحربة في هذه التوجهات لعلاقتها القوية مع إسرائيل خصوصا في عهد رئيس الوزراء الحالي ميلا زيناوي..أثيوبيا التي أعلنت مرارا رفضها لاتفاقيات 1929و 1959 في جميع عهودها السياسية و قامت عام 1984 بتنفيذ مشروع سد "فيشا" وهو مشروع يؤثر على حصة مصر من مياه النيل و من المرجح أن إسرائيل ساعدت أثيوبيا في أنشاء هذا السد تمويلا و تنفيذا.
الآن مصر و السودان أمام امتحان حقيقي .. فدول النيل الأخرى أعطت لهما مهلة حتى الرابع عشر من الشهر الجاري كي تنضم للاتفاقية الإطارية حول مياه النيل التي سيتم توقيعها في أثيوبيا..فعليا ليس أمام مصر إلا خيار التفاوض مع باقي دول حوض النيل في محاولة لتعديل شروط هذه الاتفاقية...لأنه لا يوجد خيارات أخرى متاحة.. وما يثبت هذه النظرية هو رد الفعل المصري الرسمي حيث أعلن وزير الخارجي المصري احمد أبو الغيط أن حقوق مصر التاريخية في النيل ستظل مصانة مهما حدث ....ولكن الحل العسكري و أن كان ممكنا لن يكون مجديا خصوصا إننا نتحدث عن ثماني دول..
بالفعل ميزان القوة العسكري في صالح مصر و السودان و لكن في الوضع الحالي للمنطقة لن تكون هناك أمكانية لأي مواجهات عسكرية جديدة...
يبدو أن مصر تدفع ثمن إهمالها لعمقها الأفريقي في السنوات الأخيرة و تراجع دورها الإقليمي شكل عام... ففي الستينيات و السبعينيات كانت اليد المصرية ممدودة دائما بالتنمية و الدعم لكل الدول الأفريقية..خصوصا أن معظم هذه الدول تحررت من الاستعمار بدعم مصري....ولكن هذا الدور اختفى لتدخل إسرائيل بكل ثقلها في هذه المنطقة محاولة تحقيق حلمها الأبدي...من النيل إلى الفرات و ذلك بضغطها على مصر عن طريق وضع اليد على رئة مصر...فهل ستختنق مصر؟